الاثنين، 29 سبتمبر 2014

أسلوب عائشة رضي الله عنها في التحديث والإفتاء

http://www.sunnahway.net/vb/showthread.php?t=27494

أسلوب عائشة رضي الله عنها

في

التحديث والإفتاء
أولاً : المؤهلات الفطرية والمكتسبة:
ليس من قبيل المصادفة أن يصبح شخصٌ ما علماً وسط أمتهِ ، أو في مجال تخصصهِ ، يشار إليهِ بأطراف البنان ، ويخلدُ ذكرهُ عبر الأزمان ، فكم من ملكٍ طوت ذكرهُ الأيام ، وكم من عالمٍ ضاع اسمهُ وسط الزحام . فكيف استطاعت امرأة من جزيرة العرب أن تصبح مرجعاً لأشياخ عصرها ، وقبلة لطلبة العلم الوافدين من الأمصار ، وأن تلعب دوراً سياسياً بارزاً في تلك الحقبة من التاريخ . إلى الدرجة التي جعلت أبا موسى الأشعري – رضي الله عنه- يقول : " ما أشكل علينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما " ([1]) . أما تابعها مسروق فقد سألهُ عنها أحد أصحابهِ ذات يومٍ قائلاً " كانت عائشة تحسن الفرائض ؟ قال : والذي لا إله غيره لقد رأيت الأكابر من أصحاب محمد يسألونها عن الفرائض " ([2]) . إذن هناك سر ، بل عوامل اجتمعت لتكون تلك الشخصية الفذَّة .
أول هذه العوامل المؤهلات الفطرية التي وهبها الله تعالى من عقلٍ نير وذكاء حاد ، " فإنَّ فضل أم المؤمنين ومكانتها العالية ليس في كثرة الرواية فقط ، وإنما الشيء الذي يميزها والجوهر الأصلي الذي يفضلها هو الدقة والبراعة في الفهم والقوة في الاجتهاد والإدراك والعمق في التفقُّه ولاستنباط " ([3]) . والشواهد على ذلك كثيرة نختار منها تعليقها على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى ابي بكر الصديق([4]) بأن يصلي بالناس فعلَّقت قائلة : " إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ وَإِنَّهُ مَتَى مَا يَقُمْ مَقَامَكَ لَا يُسْمِعُ النَّاسَ فَلَوْ أَمَرْتَ عُمَرَ " حتى كررها مراراً فأمرتْ حفصة أن تقول مثل قولها فأجابها – صلى الله عليه وسلم – (( إِنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ )) . أنَّ إلحاحها في الطلب ، والعبارة التي أجابها بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تجعلنا نذهب إلى أنَّ مفردات هذا الحوار لها ظلال أخرى غير المعاني الحرفية للكلام . إنَّ حزن أم المؤمنين على زوجها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم يكن حائلاً دون فهمها لأبعاد القضية وما سيؤول إليه الأمر ، ففهمت أن من اختارهُ – صلى الله عليه وسلم – ليكون إماماً للمسلمين في وفدهم على ربهم – عز وجل – سيكون من باب أولى أميراً عليهم في أمور دنياهم ، فأشفقت على ابيها من أعباء الخلافة وثقل الأمانة ، فقالت مقالتها ملمحه لا مصرحة ، الأمر الذي غاب عن حفصة – رضي الله عنها – تماماً إلا أنَّه لم يغبْ عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –.
هذا وكانت رضي الله عنها محبة للمعرفة تواقة للتعلم ، تسأل وتستفسر إذا لم تعرف أمراً أو استعصتْ عليها مسألة ، تُصَنَّفُ أسئلتها في خانة الأسئلة الذكية النافعة فلا يصدر مثلها إلا عن ذهن متوقد ، وكانت مفتاحاً لأبوابٍ من العلم لها ولمن جاء بعدها . ومن الذين افادوا من أسئلتها ترجمان القرآن وحبر الأمة عبد الله بن عباس – رضي الله عنه – فعن مجاهد قال: " قال بن عباس : أتدري ما سعة جهنم قلت لا قال أجل والله ما تدري إنَّ بين شحمة أذن أحدهم وبين عاتقه مسيرة سبعين خريفا تجري فيها أودية القيح والدم قلت أنهارا قال لا بل أودية ثم قال أتدرون ما سعة جهنم قلت لا قال أجل والله ما تدري حدثتني عائشة انها سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قوله ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ[ سورة الزمر من الآية :67]فأين الناس يومئذ يا رسول الله ؟ قال ((هم على جسر جهنم )) "([5]) وفي رواية عن أم المؤمنين قالت : (( انا أول الناس سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن هذه الآية :ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ [ سورة ابراهيم من الآية : 48 ]قالت : فقلتْ أين الناس يومئذ يا رسول الله قال : ((على الصراط )) "([6])وهكذا استطاع ابن عباس أن يُقرِّب الصورة لطلابهِ بفضل سؤال سألتهُ أم المؤمنين.
يصفها لنا ابن أبي مليكة قائلاً (( كَانَتْ لَا تَسْمَعُ شَيْئًا لَا تَعْرِفُهُ إِلَّا رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ ، قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ أَوَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تعالى :ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ [سورة الانشقاق الآية :8 ]قَالَتْ فَقَالَ: إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلِكْ ))([7]) ولم تكتفِ بما عرفت من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وإنما اجتهدت في استنباط الأحكام للوقائع التي لم تجد لها حكماً ظاهراً في كتاب الله والسنة ، فكانت إذا سئلت عن حكم مسألةٍ ما بحثت في الكتاب والسنة فإن لم تجد اجتهدت لاستنباط الحكم حتى قيل أنَّ ربع الأحكام الشرعية منقولة عنها . وعن مسروق قال :" قالت أم المؤمنين ثَلاَثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ. قُلْتُ مَا هُنَّ قَالَتْ : مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ. قَالَ وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ فَقُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْظِرِينِى وَلاَ تَعْجَلِينِى أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ [ سورة التكوير الآية :23]ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ [ سورة النجم الآية :13 ]فَقَالَتْ أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الأُمَّةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ : إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِى خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إلى الأَرْضِ. فَقَالَتْ أَوَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ [ سورة الأنعام من الآية 103]أَوَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ :ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ [سورة الشورى الآية: ٥١] قَالَتْ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَتَمَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ وَاللَّهُ يَقُولُ: ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ [ سورة المائدة من الآية: ٦٧] قالت : ومن زعم أنَّهُ يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية والله يقول :ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ [سورة النمل من الآية: ٦٥] " ([8]) ، وهكذا كانت تحرص على اظهار الترابط بين آيات القرآن من جهة وبين القرآن والسنة من جهة أخرى ، فكانت تفسر الوحي بالوحي وبذلك تكون قد مهدت لكل من أتى بعدها أمثل الطرائق لفهم النص الشرعي .
ومن المعلوم أنَّ العلم الشرعي ليس كغيرهِ من العلوم فهو فتح من الله تعالى ، ونور يُلقى في قلب العبد المؤمن ، ولتحصيلهِ أسباب يفترق فيها عن علوم الدنيا كالتقوى والخشية والورع ...، فالتقوى ملازمة للعلم كما أخبر الله تعالى : ﯸ ﯹ ﯻ ﯼ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ [ سورة البقرة من الآية : 282] وهو وعدٌ منهُ سبحانه وتعالى بأن " يجعل للمتقي نوراً في قلبهِ يفهم بهِ ما يلقى إليه ، ويُفرِق بين الحق والباطل " ([9]) يشهد لهذا قوله تعالى : ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ [ سورة الأنفال من الآية : 29 ] وربما عمل الإنسان بما علم فعلمهُ الله ما لم يكن يعلم ([10]) ، فكانت رضي الله عنها من العالمات العاملات ، إذا دخلت في صلات النافلة علم من حولها أنها ستطيل ، من ذلك ما رواه عبدالله بن أبي موسى قال : " أرسلني مدرك أو بن مدرك إلى عائشة أسألها عن أشياء قال فأتيتها فإذا هي تصلي الضحى فقلت اقعد حتى تفرغ فقالوا هيهات " ([11]) وكيف لا تكون كذلك وكان - رسول الله صلى الله عليه وسلم – يقوم الليل في حجرتها وكانت تقف منه موقف الإعجاب فتصف ركعاته قائلة : (( فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ))([12]) وكانت أحياناً تقوم معهُ - صلى الله عليه وسلم – (( ليلة التمام فكان يقرأ سورة البقرة وآل عمران والنساء فلا يمر بآية فيها تخوف إلا دعا الله عز و جل واستعاذ ولا يمر بأية فيها استبشار إلا دعا الله عز و جل ورغب إليه ))([13]) و واضبت بعد وفاتهِ - صلى الله عليه وسلم – على القيام كما روى لنا ابن أخيها القاسم ابن محمد قائلاً : " كنا نأتي عائشة قبل صلاة الفجر فأتيناها يوما وهي تصلي فقلنا لها ما هذه الصلاة قالت نمت عن جزئي الليلة فلم أكن لأدعه " ([14]) تفعل هذا وقد بشرها رسول الله - رسول الله صلى الله عليه وسلم – بالجنة بعد سؤالها لهُ (( من أزواجك في الجنة؟ قال: أنت منهن ))([15]) إلا أنها اقتدت برسول الله - صلى الله عليه وسلم – الذي أراد أن يكون (( عبداً شكوراً ))([16]) .
ولا يعد العالم عالماً إلا إذا كان عاملاً يروى عن علي ابن ابي طالب : ((هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل ))([17]).

وقد رباها رسول الله - صلى الله عليه وسلم – على الكرم ، تروي لنا جاريتها أم ذرة : " بعث ابن الزبير إلى عائشة بمال في غرارتين يكون مائة ألف فدعت بطبق، وهي يومئذ صائمة، فجعلت تقسم في الناس. قال: فلما أمست قالت: يا جارية هاتي فطري. فقالت أم ذرة: يا أم المؤمنين أما استطعت فيما أنفقت أن تشتري بدرهم لحما تفطرين عليه؟ فقالت: لا تعنفيني، لو كنت أذكرتني لفعلت." ([18]) فما أجودها وما أشد توكلها على الله وما أكرم خلقها حين ترد على خادمتها . وعن ابي سعيد – رضي الله عنه- : " أن داخلا دخل على عائشة وهي تخيط نقبة لها فقال: يا أم المؤمنين أليس قد أكثر الله الخير؟ قالت: دعنا منك، لا جديد لمن لا خلق له. "([19]) تفعل هذا امتثالاً لوصية معلمها - رسول الله صلى الله عليه وسلم – : (( إن كنت تريدين اللحوق بي فليكفك من الدنيا مثل زاد الراكب ))([20]) ورغم ما ذكرنا عن مكانتها عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وأنَّهُ بشرها بالجنة ، ومكانتها عند أصحابهِ رضوان الله عليهم ، إلا أنَّها كانت شديدة التواضع شديدة الخشية من الله عز وجل ، رافضةً للمدح والتزكية فيروي ذكوان حاجبها أنَّ ابن عباس دخل عليها قبيل موتها فبشرها وزكاها فأجابتْ قائلة : " دعني يا بن عباس من هذا فو الله لوددت اني كنت نسيا منسيا "([21]) وهذا مصداق لقوله تعالى :ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ [ سورة فاطر من الآية 28 ] . كما أنَّ للتواضع علاقة طردية مع سعة العلم ، فمكانتها لم تمنعها من الرواية عن أقرانها ومن هم دونها في المكانة والعلم كأسيد بن خضير وجذامة بنت وهب وحمزة بنت عمرة ، وما أحسن قول الشاعر :
العلم حرب للفتى المتعالي
كالسيل حرب للمكان العالي
كل هذا جعلها تحتل مكانة سامية بين أقرانها ، فكانت تستدرك حتى على علماء الصحابة([22]) ، يروي الحارث بن هشام " أنه سمع أبا هريرة يقول : من أصبح جنبا فلا يصم قال : فانطلق أبو بكر وأبوه عبد الرحمن حتى دخلا على أم سلمة وعائشة فكلتاهما قالتا : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصبح جنبا من غير احتلام ثم يصوم فانطلق أبو بكر وأبوه عبد الرحمن فأتيا مروان فحدثاه قال عزمت عليكما لما انطلقتما إلى أبي هريرة فحدثتماه فانطلقا إلى أبي هريرة فأخبراه قال هما قالتاه لكما قالا نعم قال هما أعلم إنما أنبأنيه الفضل بن عباس " ([23]).
ولم يقتصر علم أم المؤمنين على العلم الشرعي ، فكان لها حظ وافر من علم أشعار العرب وأخبارهم ومن ذلك روايتها لحديث أم زرع([24]) ذلك الحديث الماتع الحافل بغريب اللغة ونوادرها . قيل لعروة بن الزبير يوماً : " ما أرواك للشعر فقال : ما روايتي في رواية عائشة ما كان ينزل بها شيء إلا انشدت فيه شعراً "[25] ، وعن إتقانها للغة العرب وحسن بيانها يقول معاوية: " والله ما رأيت خطيبا قط أبلغ ولا أفطن من عائشة - رضي الله عنها- "([26]) ، وهذا ظاهر في أسلوب الأحاديث التي ترويها . ويتعجب عروة من سعة علمها فيقول : " يا أمتاه لا اعجب من فهمك أقول زوجة رسول الله صلى الله عليه و سلم وبنت أبي بكر ولا اعجب من علمك بالشعر وأيام الناس أقول ابنة أبي بكر وكان أعلم الناس أو من أعلم الناس ولكن اعجب من علمك بالطب كيف هو ومن أين هو ؟ قال : فضربت على منكبه وقالت : أي عرية ان رسول الله- صلى الله عليه و سلم- كان يسقم عند آخر عمره أو في آخر عمره فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه فتنعت له الأنعات وكنت أعالجها له فمن ثم " ([27]).
ونحن اليوم إذ نبحث عن عائشة في وجوه بناتنا ، علينا أن لا نكتفِ بأن نتمنى على الله الأماني ، بل نسعى للأمر سعيهُ ، ننظر في أساس ذلك البناء الشامخ لنضع أيدينا على سر الخلود.





ثانياً : أسلوبها في التحديث وطبيعة مجلسها :
أن يكون المرء عالماً ، لا يعني بالضرورة أن يكون معلماً ناجحاً ، إذ لا بد للثاني من أسباب أخرى تجعلهُ قِبلَةً للطالبين ، تصغي إلى حديثهِ الأسماع ، وتطمئن لفتواه القلوب . وقد جمعتْ أم المؤمنين من هذهِ الأسباب ما جعلها تستقل بالفتوى([28]) على أيام أبي بكر وعمر وعثمان فنراها تنتقد على أبي هريرة سردهُ للحديث فتقول " أَلاَ يُعْجِبُكَ أَبُو هُرَيْرَةَ جَاءَ فَجَلَسَ إلى جَنْبِ حُجْرَتِى يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- يُسْمِعُنِى ذَلِكَ وَكُنْتُ أُسَبِّحُ فَقَامَ قَبْلَ أَنْ أَقْضِىَ سُبْحَتِى وَلَوْ أَدْرَكْتُهُ لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ. "([29]). وكانت إذا بدأت ببيان حكم تقوم بتوضيح علة ذلك الحكم حتى يرسخ في ذهن السائل والسامع ويقتنع بمشروعيته ، من تلك الأحكام ( غسل الجمعة ) فقد روى ابن عمر- رضي الله عنه- الحديث المتضمن للحكم بهذه الصيغة : (( سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ ))([30]) أما رواية أم المؤمنين فكانت مفصلة على الشكل التالي : (( انَ النَّاسُ يَنْتَابُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَالْعَوَالِيِّ فَيَأْتُونَ فِي الْغُبَارِ يُصِيبُهُمْ الْغُبَارُ وَالْعَرَقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُمْ الْعَرَقُ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْسَانٌ مِنْهُمْ وَهُوَ عِنْدِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هَذَا ))([31]) .
مجلسها ومن هم طلابها :
بعد ما بيَّنا جانباً من مكانة أم المؤمنين وكيف أصبحت قبلة للطالبين ومرجعاً لعلماء الصحابة ، أصبح لزاماً علينا أن نوضح بعض المسائل في هذا الباب والتي أثار حولها المرجفون شبههم ، وجعلوها مثاراً للجدل . فيقول بعضهم : كيف تجلس أم المؤمنين للحديث بين الرجال تفتح معهم مواضيع مثل غسل الجنابة والقبلة للصائم ... فنقول وبالله التوفيق :
لقد حظيت أمهات المؤمنين بنصيب من العلم لم يحظَ به غيرهن ، وهنَّ اللواتي أقمن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فعلمن هديه داخل بيتهِ وفي مضجعهِ ، وما كنَّ ليكتمن شيء من العلم على أصحابه وهم الحريصون على العمل بهديه والاقتداء بسنته . يشهد على ذلك حديث أبي هريرة السالف الذكر والذي سرعان ما تراجع عن فتواه أمام فتوى أمهات المؤمنين فقال " هما أعلم " فحتى سيد الحفاظ أعلن افتقاره لعلمِهنَّ في هذه المسائل ، ورفعاً للحرج فقد جعلهنَّ الله أمهاتاً للمؤمنين قال تعالى : ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯞ ﯟ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ [ سورة الأحزاب من الآية : 6 ] ورغم ذلك يجد أبا موسى الأشعري رضي الله عنهُ- في نفسهِ الحرج من سؤال أم المؤمنين فيقول : " إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحييك فقالت : لا تستحي أن تسألني عن شيء كنت سائلا عنه أمك التي ولدتك إنما أنا أمك" ([32])، وحتى مسروق الذي تربى في كنفها ، أتاها يوماً هو والأسود ليسألاها عن المباشرة للصائم قال مسروق : " فاستحينا فقمنا قبل أن نسألها فمشينا لا أدري كم ثم قلنا : جئنا لنسألها عن حاجة ثم نرجع قبل أن نسألها فرجعنا فقلنا يا أم المؤمنين إنا جئنا لنسألك عن شيء فاستحينا فقمنا فقالت: ما هو سلا عما بدا لكما " ([33]) . أما إذا أرادتْ الحديث ابتداءً ، فكانت تحدث محارمها كابني أخيها محمد و القاسم وعبد الله وابنتا أخيها عبد الرحمن ، حفصة وأسماء ، أو حدثت بذلك النساء كحديثها مع نساء البصرة الذي تقول فيه : " مرن أزواجكن يغسلوا عنهم أثر الخلاء والبول فأنا نستحي أن ننهاهم عن ذلك وأن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يفعله "([34]) . وقد عدَّ السيد سليمان الندوي سبعاً وأربعين امرأة يحدثن عن عائشة وترجم لبعضهن([35]) ، ولم يكن لأم المؤمنين مجلس مفتوح يغشاه العامة والأعراب بل كان الدخول عليها مقصور على محارمها حتى قال قبيصة " كان عروة يغلبنا بدخوله على عائشة "([36]) فإذا كان لأحدهم حاجة توسط بأحد أقاربها ليدخلهُ عليها ، فإذا دخل كلمتهُ من وراء حجاب وإذا سأل أجابت بجواب موجز بيَّن ، لا إخلال فيه ولا إطناب . وللوقوف على هذهِ المعاني نسرد حديث سعد ابن هشام عند دخولهِ على أم المؤمنين " عن سعد بن هشام : انه طلق امرأته ثم ارتحل إلى المدينة ليبيع عقارا له بها ويجعله في السلاح والكراع ثم يجاهد الروم حتى يموت فلقي رهطا من قومه فحدثوه ان رهطا من قومه ستة أرادوا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أليس لكم فيِّ أسوة حسنة فنهاهم عن ذلك فأشهدهم على رجعتها ثم رجع إلينا فأخبرنا انه أتى ابن عباس فسأله عن الوتر فقال الا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: نعم قال ائت عائشة فاسألها ثم ارجع الي فأخبرني بردها عليك قال فأتيت على حكيم بن افلح فاستلحقته إليها فقال : ما انا بقاربها اني نهيتها ان تقول في هاتين الشيعتين شيئا فأبت فيهما الا مضيا فأقسمت عليه فجاء معي فدخلنا عليها فقالت : حكيم وعرفته قال نعم أو بلى قالت : من هذا معك قال : سعد بن هشام قالت : من هشام قال : بن عامر قال فترحمت عليه وقالت : نِعمَ المرء كان عامر قلتُ : يا أم المؤمنين انبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت : الست تقرأ القرآن قلتُ : بلى قالت فإن خلق رسول الله صلى الله عليه و سلم كان القرآن ، فهممت ان أقوم ثم بدا لي قيام رسول الله صلى الله عليه و سلم قلت : يا أم المؤمنين أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : الست تقرأ هذه السورة { يا أيها المزمل } قلت :بلى قالت : فان الله عز و جل افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم وأمسك الله عز و جل خاتمتها في السماء أثنى عشر شهرا ثم انزل الله عز و جل التخفيف في آخر هذه السورة فصار قيام رسول الله صلى الله عليه و سلم الليل تطوعا من بعد فريضة ، فهممت ان أقوم ثم بدا لي وتر رسول الله صلى الله عليه و سلم قلتُ : يا أم المؤمنين انبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه و سلم قالتْ : كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله عز و جل لما شاء أن يبعثه من الليل فيتسوك ثم يتوضأ ثم يصلي ثماني ركعات لا يجلس فيهن الا عند الثامنة فيجلس ويذكر ربه عز و جل ويدعو ويستغفر ثم ينهض ولا يسلم ثم يصلي التاسعة فيقعد فيحمد ربه ويذكره ويدعوا ثم يسلم تسليما يسمعنا ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني فلما اسن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخذ اللحم اوتر بسبع ثم صلى ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم فتلك تسع يا بني وكان نبي الله صلى الله عليه و سلم إذا صلى صلاة أحب ان يداوم عليها وكان إذا شغله عن قيام الليل نوم أو وجع أو مرض صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه و سلم قرأ القرآن كله في ليلة ولا قام ليلة حتى أصبح ولا صام شهرا كاملا غير رمضان فأتيت بن عباس فحدثته بحديثها فقال : صدقت أما لو كنت أدخل عليها لأتيتها حتى تشافهني مشافهة " ([37]) بإمكاننا الآن أن نتصور أهمية علم أمهات المؤمنين ، ومدى حاجة الصحابة وتابعيهم إليه ، يتضح ذلك من عبارة ابن عباس وهو من هو " الا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه و سلم " ، ثم لو كان لأم المؤمنين مجلس مفتوح لما احتاج سعد بن هشام إلى واسطة تُدخِلهُ إليها ، يؤيد ذلك إلحاحهُ في الطلب على حكيم بن أفلح([38]) وهو ابن أفلح ابن أبي القعيس عمُّ عائشة من الرضاعة ، ومن عبارة سعد " فهممت أن أقوم " والتي كررها بين سؤال وآخر نتصور طبيعة اللهجة التي كانت تحدث بها أم المؤمنين والتي توحي للزائر بأن يكون مكوثه على قدر الحاجة ، كما ونلاحظ حرص سعد على الإفادة من هذا اللقاء ، فركز أسئلته حول أمور اختصتْ بعلمها أم المؤمنين ، سألها أول ما سألها عن خلقهِ - صلى الله عليه وسلم- وهي أقرب الناس إليه خصوصاً بعد رحيل أبي بكر وعمر ، كما أنَّ أهل بيت الرجل أعلم الناس بخلقهِ ، فإن الإنسان عموماً يكون بطبيعتهِ داخل بيتهِ ، ثمَّ سألها عن قيامهِ - صلى الله عليه وسلم- ومن أعلم منها بهذا وكان عليه السلام يقوم الليل في حجرتها ، وبالعودة إلى جواب أم المؤمنين نجدها تذكر السائل بكتاب الله عز وجل " الست تقرأ القرآن " وبهذا ترد العلم إلى الوحي ، وتوجه السائل إلى تدبُّر كتاب الله ، أما الجزء الأخير من الإجابة فعلى طريقة (( الطهور ماءه الحل ميتته )) فعندما سألها عن وترهِ عليه السلام ذيلت الجواب بنهي عن الغلو ، وهي نصيحة مناسبة لحال السائل ، والذي كان فيهِ شيء من الغلو قبل أن يأتي أم المؤمنين كما روى هو في بداية الحديث.
وبهذا نكون قد جلينا عن الأعين ما غبر به علينا المرجفون ، وكسرنا تلك الصورة المشوهة التي نقشتْ في خيال الجهَّال ، رائدهم في ذلك كتب المستشرقين وروايات الرافضة ، مقدمين الصورة الأصيلة لأم المؤمنين نرسمها بأسلوب ( قال حدَّثنا .. )

[1]أخرجه الترمذي ،محمد ابن عيسى / 3883 ، وصححه الألباني

[2]أخرجه الدارمي ،عبد الله بن عبد الرحمن / 2859

[3]سيرة عائشة ، سليمان الندوي : 245

[4]ينظر نص الرواية كاملة في صحيح البخاري /713

[5] مسند الإمام أحمد ، احمد بن حنبل / 24900 ، وصححه شعيب الأرنؤوط

[6]م . ن / 24115 ، قال الأرنؤوط إسناده صحيح على شرط مسلم

[7]صحيح البخاري / 103

[8]صحيح مسلم ، ابو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري / 457

[9]أيسر التفاسير ، ابو بكر الجزائري : 276/1

[10]ينظر : أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ، محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي : 261/7

[11]مسند أحمد / 24989 وصححه الأرنؤوط

[12]صحيح البخاري / 1147

[13]مسند أحمد / 24653 ، قال شعيب الأرناؤوط صحيح لغيرهِ

[14]سنن الدارقطني ، علي بن عمر أبو الحسن الدارقطني البغدادي/ 3 ، الباب /7 ، كتاب الصلاة

[15] سبق تخريجه

[16]صحيح البخاري /1130

[17]جامع الأحاديث ، جلال الدين السيوطي /34953 ، ذكره معلقاً

[18]طبقات ابن سعد ، 67/8

[19]م . ن : 73/8

[20]مسند أبي يعلى ، أحمد بن علي بن المثنى أبو يعلى الموصلي التميمي / 4610

[21]مسند أحمد / 3262 ، قال شعيب الأرنؤوط : إسناده قوي على شرط مسلم رجاله ثقات رجال الشيخين غير ابن خثيم فمن رجال مسلم

[22] للتوسع في هذا الموضوع ينظر كتاب الْإِجَابَةُ لِإِيْرَادِ مَا اسْتَدْرَكَتْهُ عَائِشَةُ عَلَى الصَّحَأبَةِ ، مُحَمَّد بْن بَهَادر بْن عَبْد اللهِ الزركشي

[23]مسند احمد / 25714 ، قال شعيب الأرناؤوط : إسناده صحيح على شرط الشيخين

[24]ينظر : صحيح البخاري /4893

[25] سير أعلام النبلاء ، الحافظ الذهبي : 4/426

[26]المعجم الكبير ، سليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم الطبراني / 298

[27]مسند أحمد / 24425 ، قال شعيب الأرنؤوط : خبر صحيح

[28] لما أخرجه ابن سعد عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال: (( كانت عائشة قد استقلت بالفتوى في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وهلم جرا إلى أن ماتت يرحمها الله، وكنت ملازما لها مع برها بي )) والقاسم هو ابن أخيها محمد . الطبقات الكبرى 2/375

[29]صحيح مسلم /6554

[30]صحيح البخاري /894

[31]م . ن /902

[32]سنن البيهقي الكبرى ، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى أبو بكر البيهقي /744

[33]مسند احمد /25857 ، قال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط الشيخين

[34]م . ن /24683 ، قال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين

[35]ينظر : سيرة عائشة : 321-327

[36]تهذيب التهذيب ،أحمد بن علي بن محمد ابن حجر العسقلاني : 12/463

[37]مسند أحمد ، /24314 ، قال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط الشيخين

[38]يتوقع أن هناك صلة بين حكيم وأم المؤمنين أقوى من كونهِ أبن عمها من الرضاعة ، كأن يكون قد رضع هو الآخر من زوجة عمهِ فأصبح أخ لعائشة من الرضاعة ، وإن لم يكن بين يدينا نص يؤكد ذلك إلا أنه مجرد احتمال يتبادر إلى الذهن من سياق الرواية , وعلى كلٍ لا يعقل أبداً أن غريباً كان يخلو بأم المؤمنين خصوصاً وأن محارمها كانوا يحيطون بها في المدينة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق